وبعد مرور زمن المدارس،
وبعد التدرّج من الصفوف والتدرّب في تقنيّات شرائع الوجود، نصل لمرحلة التخرّج
لنوحّده بعين العلم بين القلب والعقل فنراه في كلّ المدارس والشرائع والمذاهب
والأديان على شكل خيط واحد يوحّد الجميع، نتمسّك به ونتسلّق عبره لقطع المسافة بين
الأنا المتبقية برواسب اللّاوعي وبين الفناء في: – والذي يفنى يشاهد كلّ أسرار
الوجود -.
2. وبعد النّجاح في
اختبارات الحياة واستنفاذ الكارما الخاصّة بنا من هذه الحياة واستهلاك الكارما
الماضية فيما مضى من حيوات، سنراه كروح بيننا بل وسنلامس روحنا وسندخل في الّذين
هَدى المولى
..
أنت أنا وحقيقتك هي عين
باطني.
3. وبعد أن قُتِل الرسل
والأنبياء وبعد أن صُلِبت الحقيقة وعُذِّب الأولياء، وبعد أن تمّ تقطيع الحلّاج
والقديّسين بأيدي وأفكار المدّعين نصل لمقام وعي مَن نظروا له في أنفسهم ووجدوه
ليجدوا أنفسهم فيه وآمنوا به وكأنّه هُم فأصبحوا بتوحيده وكأنّهم مَجْلى الحقّ
بالذّات.
4. وبعد أن انتهى المشوار
بين العبد والمعبود تلاقى الاثنان ليصبحان واحداً، فكانت الحقيقة روح لم يعلمها
إلا الرّب، أمّا الآن فقد أصبحنا نعلمها معاً عندما غنّى له الحلّاج مجده في روحه
روحي وروحي روحه إن يشا شئت و إن شئت يشا..
فقد تمّ التوحّد في علم
اللانهائيّات.
هذه الحالة من الوعيّ الأحديّ لا يفهمها العقل البشريّ المبرمَج على القطبيّة والنظرة المتطرّفة التي تكون في تحديد قطبي إمّا إله الأرض أو إله الغيب والسماء..
صعب أن نعتقد بوجوده مجسّداً على شكل بشر وعادةً ما يصيح الانسان مستنكراً، أبشر مثلنا؟!
والمستصعب هو الأصعب من ذلك في أن تنزّهه عن الوجود، ممّا يعني أن تعتبر أنّ كلّ مظهرٍ أمامك هو تجلٍّ لله، فالله موجود في كلّ الوجود وليس بشخص محدود، ومعنى التنزيه له أي خارج منظومة التّكوين ...
الكون جسده ممّا يعني أنّ كلُّ ذرة فيه وكلّ شيء وكلّ مخلوق هو تجلٍّ له، فهنا الصعوبة البالغة بأن تراه خلف الجماد والنّبات والحيوان والإنسان، هنا ستعتبر أنّ الصديق تجلٍّ له والزوجة أو الزوج وستعتبر الأولاد تجلّيات له والأبّ والأمّ والأصدقاء والمقرّبين والمدير والمعلّم والعدو، كلّ من هم في ساحتنا الحياتيّة مظاهر له، لماذا؟
لأنّك قد أصبحت تنظر بنظرته الإلهيّة، أي الشاهدة للرّوح الواحد في الجميع.
إنّ هذه النظرة فيها جنّة الوعي الأحديّ وبالتالي لا يهمّنا أفكار الآخرين ولا أعمالهم لأنّها لهم وترتد عليهم، فهم خارجون وقد يمثّلون مظاهر إبليسيّة بانحرافاتهم، فالتجلّي الحقّ لم يظهر منهم بشكله الأحديّ اللطيف البسيط الأزلي، بل عادة ما يظهر منهم مظاهر تتناسب مع أفكارهم وبرمجيّاتهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، فغرورهم وتحجّرهم يكفيهم فقد غرّهم بالله الغَرور، أمّا أنت أيّها الموحّد الحرّ فقد فلقتَ القشرة الصلبة وارتفعتَ وسموت بنفسك عن مقامات الدُّون، وإنّك لعلى الحقّ المبين المبرهَن أمام ناظريك عندما تفلق قشرتك الخاصّة وتنظر للبذور الأخرى التي ما زالت قابعة في جحر معتقداتها وأفكارها وعواطفها، فالصّوص الذي قد نقر القشرة وخرج سيستمع لأنين الصّيصان داخل القشور المغلقة، ينظر لهم بنظرة كليِّة شاهدة، وهم ربّما مغرورون بوجودهم في جحرهم الضيّق المظلم الذي ربّما سيموتون فيه إنْ لم يولدوا في الزمن المحدّد بظهور التجلّي الذي كان قد ألهمهم سواء السبيل، وإلا عليهم ربّما الانتظار لدورة بيضة دجاج أخرى في ربيع آخر لعلّ تتاح لهم الفرصة بالظهور الحقّ.
6. بظهوره نعمة وبغيابه نِعَم!!!
فنعمة ظهوره بجسد تلهمنا وتعلّمنا الموجة الأحديّة التي لا تقدّر بثمن، أمّا نعمة النعم فهي عندما ينعكس نوره علينا ونصبح نحن هو فإنّنا سننظر للآخرين نظرةً تحاكي ما بأنفسنا، فالله فينا سينظر للآخرين بأنّهم تجسّدات لله أو للمحبّة، وسنغضّ النظر عن نظرة الآخرين لنا لأنّنا بإرادة إلهيّة تحترم التوجّهات الفرديّة والخيارات الصعبة، وبروحٍ كليِّة تحترم النفوس الفرديّة بانتقائها للصفوف المدرسيّة والتجارب التي ستخوضها، فنفسنا أصبحت كلّيَّة تنظر بعين الإلهيّة، أمّا ساكني المغاور والأخاديد الضيّقة في عالم الأرض والطين اللازب فهذا خيارهم و مصيرهم في:
نبدّلهم جلودا بغيرها كلّما نضجت منهم جلود، أمّا الموحّدون الحقيقيّون البعيدون عن التطرّف لأيّ مذهب أو عقيدة أو تيار أو دين، فقد قالوا:
إنّا وجدْنا ما وعَدَنا ربُّنا حقاً لَمَّا أقررنا بتجلّيه وانتظرنا زمن إمهال فيه المحن والبلايا تطهير للنفوس، حتّى وصلنا ليتجلّى بنا، فهذه هي الجنَّة الحقَّة، وما نظرات و تقييمات الآخرين لنا إلا معتقدات تخصّهم على حسب المرحلة التي تطوروا فيها ...
7. القلب النّقي يحدّد سعادة الفرد، مثل المكثّفة التي تتناغم مع السّعة الخاصّة بها، أمّا المنزلة سيحدّدها مقدار اتّساع العقل، فإن كان العقل ضحلاً سيبقى في معتقدات ومدارس الدّون وسيحدّد إلهه على حسب مقدار استيعاب عقله الذي عادة يحبّذ التطرف الغيبيّ أو الوثنيّ ..
أمّا العقول المرنة المنفتحة التي لا تتقيّد بأحد الطرفين بل تجمعهما لتتجاوز بهما كلّ هذا الوجود المحدود فبلا شك أنها عقول راجحة زكيّة.
8. لا يمكن أن يتجلّى الله بنا إن كان لدينا أدنى عقدة عقائديّة أو خلل بنظام الكون، بل يمكن أن يتجلّى لنا ليساعدنا على سدّ فجواتنا بالنور ..
مما يعني أنّ قصورنا وعجزنا نحو الكمال استدعى من ذاته الشريفة أن ينزل بذاته لمحيط عالمنا تماماً مثل القصّة التي رواها أحد الرهبان للملك كبير الذي استنكر على الذين يعتقدون بالتجسّد الإلهي معتقداتهم، فقام الراهب المستشار حينها في قصر الملك أثناء رحلة بَحريّة برمي دمية على شكل ابن الملك كبير وقَرَصَ ابن الملك الحقيقي ليصيح من على ظهر المركب بعيداً عن الحاشية مما استدعى الملك بنفسه أن يقفز إلى الماء لينقذ ابنه دون انتظار لمساعدة من أحد بمثالنا هنا، أو مساعدة من رسول أو نبي في أوقات الجزر الكونيّ الذي فيه القانون لا يهمل ولا يمهل بسبب تسريع الطاقات، فعندما تنحدر طرق الاستقامة يتجلّى الإله بذاته لينقذ الأبرار مثلما فعل الملك كبير الذي تخلّى عن كامل الأُبّهة المَلكيّة وقفز بكامل حلله لإنقاذ ابنه.
9. إن لم نكن مكتملين بأنفسنا، خالين من الأماني والرغبات، مسلّمين له حقيقة التّسليم لن يظهر بكماله في ساحتنا بل سيظهر ببدائل جزئيّة على شاشة وعينا المُثَقبّة بالهوى والرّغبات والأماني والظنون والمعتقدات.
سيتجلّى لكم كما أنتم كالنّاظر إلى وجهه في المرآة، فلا عيب في صورته بل العيب منّا ومن الصور التي اخترناها عبْرَ الزمن الطويل، فكما نحن الآن كنّا في السابق، حيث من وحّده في عصرنا هذا فقد كانت منزلته مستحقّة لظهوره الكامل، ومَن لم يوحّده بكمال الوصول لكل مقامات الطاقة والوعي فقد كان يظهر له من شجرة أو جبل ومن رسل وأنبياء ومن معلمين وأدعياء ومن تقنيات وعلماء ومن فتاوى دم وجهاد النّكاح ومن أفكار هوائيّة نفوس البشر ومن أشباح بلا أرواح تظهر للمبَرمَجين بقدر، كل ذلك تقدير العزيز الحكيم،
لكن أين نحن من أقدارنا الجِسام في دنيا الأجسام؟.